إباحة ميتة البحر ومن غرائب البحار فضيلة الشيخ / محمد علي عبد الرحيم * * * * * * * * * روى الإمام أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : " كنا مع أبي عبيدة ، بعثنا النبي صلى الله عليه وسلم ، فنفد زادنا ، فمررنا بحوت قذفه البحر ، فأردنا أن نأكل منه ، فمنعنا أبو عبيدة . ثم إنه قال بعد ذلك : نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي سبيل الله ، كلوا ، فأكلنا منه أيامًا ، فلما ذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن كان معكم منه شئ فابعثوا به إلينا " . وأخرجه البخاري ومسلم بزيادة : وادهنا من ودكة حتى ثابت منه أجسادنا وصلحت . وفي رواية : " فأقمنا عليه ثمانية عشر يومًا ونحن ثلثمائة حتى سمنا . قال جابر : ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه بالقلال : الدهن ، ونقتطع منه القدر ، كقدر الثور ، وأخرجنا من عينه كذا وكذا قلة ودك ، ولقد أخذ أبو عبيدة رضي الله عنه ثلاثة عشر رجلاً ، فأقعدهم في ثقب عينه ، وأمر أبو عبيدة رضي الله عنه بضلع من أضلاعه فنصب ، ونظر إلى أطول جمل فجلس عليه ، ومر من تحته راكبًا فلم يصبه . قال جابر : وتزودنا من لحمه ". وفي رواية أبي حمزة الخولاني : " وحملنا منه ما شئنا من قديد وودك في الأسقية والغرائر ". تعريف بالأعلام : 1- جابر بن عبد الله رضي الله عنهما :- هو جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري من قبيلة الخزرج بالمدينة ، وهو وأبوه صحابيان . شهد العقبة الثانية مع أبيه صغيرًا (أي التقى مع رسول اللهصلى الله عليه وسلم سرًا ليلاً عند جمرة العقبة بمنى في موسم الحج خشية أن تعلم قريش . وأسلم في تلك السنة اثنا عشر نشروا الإسلام بالمدينة قبل الهجرة ) وكان أبوه أحد النقباء الاثنى عشر ومنهم أسعد بن زرارة ، وعبادة بن الصامت رضي الله عنهم أجمعين . وأبوه أول شهيد للمسلمين في غزوة أحد . وروى مسلم عن جابر رضي الله عنه قال : "( غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع عشرة غزوة " . وقال أيضًا : " كنت أمنح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء يوم بدر " أي يسقيهم الماء . ومعنى ذلك أنه كان صغيرًا لم يقاتل لصغر سنه كأمثال أبي سعيد الخدري . وأنس بن مالك ، وعبد الله بن عمر ، الذين كانت أعمارهم نحو 14 عامًا حينذاك فأعفاهم نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم من القتال . وشهد جابر مع علي بن أبي طالب (صفين) وكف بصره في آخر عمره ، ومات بالمدينة سنة أربع وسبعين على الراجح ، وصلى عليه أبان بن عثمان وهو أمير المدينة يومئذ . وله من العمر أربع وتسعون سنة ، وهو أحد المكثرين لرواية الحديث من الصحابة . روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم 1540 حديثًا اتفق الشيخان على 60 حديثًا منها وانفرد البخاري بستة وعشرين حديثًا وانفرد مسلم بـ126رضي الله عنه وأرضاه . 2- أبو عبيدة رضي الله عنه :- هو عامر بن عبد الله بن الجراح . يتصل نسبه إلى فهر بن مالك بن النضر بن كنانة من قريش . سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمين هذه الأمة . أسلم مع عثمان بن مظعون بمكة . وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة . هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية ، وشهد المشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وثبت معه يوم أحد ، ونزع الحلقتين اللتين دخلتا في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد من حلقات المغفر بفمه ، فوقعت منه ثنيتان فكان أحسن الناس هتمًا " الهتم فقدان مقدم الأسنان " . مات أبو عبيدة رضي الله عنه في طاعون عمواس بالشام عام 18 من الهجرة في عهد عمر رضي الله عنه وعمره 58 عامًا ودفن في بيسان . وصلى عليه معاذ بن جبل ثم مات بعده . معاني المفردات : * بعثنا النبي = كانوا ثلثمائة تحت قيادة أبي عبيدة . وكان من بين الجنود عمر بن الخطاب وكان ذلك في شهر رجب من العام الثامن قبل الفتح . * نفد الزاد = انتهى الطعام ، وكان تمرًا . * الحوت = حيوان مائي ضخم يتنفس الهواء . يقول عنه العرب هو دابة العنبر . وهو من بيئة الحيوانات المائية التي تعيش في المياه الباردة كشمال المحيط الأطلسي حول جزيرة أيسلند وجرينلند وقد يصل طوله نحو 40 مترا . ودهنه يغلب على لحمه . وجلده يستعمل في الطبول . وله غدة في رأسه تفرز العنبر العطري ، الذي له فوائد طيبة كثيرة وقد يخترق المحيطات إلى البحار الدفيئة جريًا وراء قطعان الاسماك ، ورأسه ثلث جسمه . فإذا وجد قطيعًا من أسماك فتح فاه فيقع القطيع في فمه الذي يبلغ طوله نحو عشرة أمتار ، ثم يطبق فاه على السمك ليبتلعه ، ويخرج الماء من فتحة في رأسه إلى ارتفاع يزيد عن 12 مترًا . فيعرف الصيادون موضعه ليصيدوه . وهو أضخم حيوان مائي ، كما أن الفيل أضخم حيوان برى . * فمنعنا أبو عبيدة = نهانا أبو عبيدة عن الأكل منه في أول الأمر على اعتبار أنه ميتة . * ثم قال كلوا = تذكر أبو عبيدة أن الضرورات تبيح المحظورات . وذلك بإباحة أكل الميتة وهم في سبيل الله وفي طاعة الله ورسوله ثم تبين من آخر الحديث أن ميتة البحر كلها حلال بغير اضطرار . * أكلنا منه أياما = أكل منه القوم 18 ليلة كما جاء في الصحيح . * فابعثوا به إلينا = هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم ليأكل منه لبيان إباحة أكل ميتة البحر . * لودك = الدهن . * ثابت أجسادنا = رجعت إلى حالتها الأصلية قبل الجوع . * سمنا = من أكل لحم الحوت سمنت أجسادهم بعد الهزال من السفر والجوع . * الوقب = بتسكين القاف قال صاحب القاموس نقرة في صخرة . * نغترف من وقب عينه بالقلال = لما امتلأت حفرة العين اغترفوا منها بالأوعية . * القديد = اللحم المجفف بالملح للحفظ . وهو ما قدموه لرسول الله صلى الله عليه وسلم . * الأسقية = الأوعية التي للماء في الأصل . * الغرائر = جمع غرارة وهي الكيس من القماش الذي يوضع فيه التمر والحب . المعنى : يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : " بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية (كتيبة من الجيش) تحت قيادة أبي عبيدة رضي الله عنه ، ليرصدوا عيرًا (إبلاً محملة بالتجارة) لقريش في طريق البحر . وزودنا رسول اللهصلى الله عليه وسلم بجراب من تمر لم يجد لنا غيره . وكان أبو عبيدة على رأس جيش تعداده ثلثمائة رجل منهم عمر بن الخطاب ، وكان أبو عبيدة يعطينا قبضة قبضة ، ثم صار يعطينا تمرة تمرة حتى فني التمر ، قيل لجابر كيف كنتم تصنعون بالتمرة الواحدة ؟ قال : كنا نمصها كما يمص الصبي ، ثم نشرب عليها الماء فتكفينا يومنًا إلى الليل " . وفي حديث لعبادة بن الصامت رضي الله عنه عند ابن إسحاق : " (فقسمها - أي التمر) يومًا بيننا فنقصت تمرة عن رجل ، فوجدنا فقدها ذلك ، فأصابنا جوع شديد ، وكنا نضرب بعصينا الخبط (بفتح الخاء والباء) وهو ورق شجر يجفف ، ثم نبله بالماء " . يقول جابر كما جاء في الصحيحين : " فألقى إلينا دآبة البحر يقال لها العنبر ، لم نر مثلها . فأتينا وأردنا أن نأكل من ذلك الحوت الذي قذفه البحر ، فمنعنا أميرنا أبو عبيدة أولاً . وقال هذه ميتة . ثم إن أبا عبيدة قال بعد ذلك كلوا بعد أن نهانا عن الأكل منه ، معتقدًا أن حالهم حال ضرورة تبيح أكل الميتة . وقال أبو عبيدة نحن رسل رسول الله أرسلنا لنقاتل أعداء الله وفي سبيل الله وقد اضطررتم فكلوا منه . فبني أبو عبيدة أولا تحريم الميتة على عموم تحريمها ، ثم تذكر تخصيص المضطر بإباحة أكلها إذا كان غير باغ ولا عاد " . وهم بهذه الصفة في سبيل الله وفي طاعة الله ورسوله . وقد تبين من آخر الحديث أن تحليله ليس بسبب الإضطرار بل لكونه من ميتة البحر . ثم قال جابر :- أكلنا أيامًا . ذكرها البخاري ثماني عشرة ليلة ، وادهنا من دهنه حتى صلحت أجسامنا - يعني تحسنت . ويقول جابر في وصف الحوت : كنا نغترف الدهن من ثقب عينه ، ونقتطع منه كحجم الثور ، وقد أخذ أبو عبيدة رضي الله عنه 13 رجلا فأقعدهم في ثقب عينه مما يدل على اتساعها كحجرة من الحجرات . أما ضلوع الحوت فكان الواحد منها في الطول كأكبر الرجال طولاً في الجيش . وهو سعد بن عبادة رضي الله عنه كما ذكر ذلك ابن حجر في فتح الباري . وقد تزودوا من لحمه ، وحملوا منه شيئًا من قديد ودهن عالجوه بالملح ليحفظ من الفساد . ولما وصلوا إلى المدينة قصوا على النبي صلى الله عليه وسلم ما رأوا وما فعلوا ، ليستفتوه في حكم أكل لحم صيد البحر . فقال صلى الله عليه وسلم : " إن كان معكم شئ منه فابعثوا به إلينا - ليأكل منه . وقال في رواية أخرى : هو رزق أخرجه الله لكم ، فهل معكم من لحمه فتطعمونا ؟ وبهذا تتم الدلالة على إباحة ميتة البحر بدون اضطرار " . ما يستفاد من الحديث : 1- جواز أكل ميتة البحر مطلقًا ، إلا ما كان يشبه حيوان البر فيتعين ذبحه كالسلحفاء البحرية لأنها لا تموت إلا بالذبح . 2- تحمل الصحابة الشدائد ، وصبرهم على الجوع أثناء الجهاد فكان الواحد منهم يكتفي بتمرة واحدة في اليوم . 3- من كرامة الله لأوليائه من الصحابة ، أن قذف بحوت أصله من البلاد الباردة وجاء إلى البحر الأحمر ، فأكلوا منه وادهنوا وادخروا . وحملوا منه شيئًا إلى المدينة فأكل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم . 4- منزلة أبي عبيدة بين الصحابة ، فقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرية تعدادها ثلثمائة رجل من بينهم عمر بن الخطابرضي الله عنهم أجمعين . 5- غرائب البحر آيات عظيمة من آيات الله . وهي أشد غرابة من آيات البر . فأكبر الكائنات في البحر هو الحوت (ويسميه بعضهم القيطس) كما أن الفيل أكبر الكائنات البرية . ويقول كاتب هذه السطور :- أنه رأى بعينيه حوتًا ضالاً جنح على رمال مدينة رشيد بقوة اندفاعه وراء قطيع من الأسماك عند مصب النيل في رشيد عام 1346 هـ الموافق 1927 م فاندفع بقوة إلى البر على الرمال حتى كان رأسه (ثلث جسمه) خارج الماء ولم يستطع الرجوع إلى عمق الماء لثقل جسمه . وكان طوله نحو ثلاثين مترًا . فجاء الناس يصعدون على ظهره بسلالم خشبية يبلغ طولها 5 أمتار . وظلوا يأخذون من دهنه أيامًا حتى ظهر لحمه قبل أن يتعرض للفساد . وكان دهن الحوت حينذاك يوصف لدهان المفاصل . وأسرف الناس في اهداء هذا الدهن بالصفائح الكبيرة التي تزن نحو 14 أقة وقتئذ أو ما يعادل حاليًا نحو 18 كيلو جرامًا ، لعلاج الروماتزم قبل أن يتقدم الطب . ولعل مثل هذا الحوت هو الذي ابتلع يونس عليه السلام حيث قال عز شأنه :﴿ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ"139" إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ (هرب) الْمَشْحُونِ"140" فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ"141" فَالْتَقَمَهُ (ابتلعه) الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ"142" فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ"143" لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ (139-144 : الصافات) . 6- هذا وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أحل لكم ميتتان ودمان ، فالميتتان السمك والجراد ، وأما الدمان فالكبد والطحال " . كما أن ابن القيم قال في تفسير قوله تعالى : ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ ﴾ (96 : المائدة) قد صح عن أبي بكر وعمر وابن عباس وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم أن طعام البحر ما صيد منه ، والله أعلم . محمد علي عبد الرحيم
|