الحمدُ
لله الذيجَعَل الليل والنهار خِلفةً لِمَن أراد أن يَذكَّر أو أراد شكورًا،
والصلاةوالسلام على رسوله الذي كان لربِّه عبدًا شكورًا.
وبعد:
فقد
عاد إلينا شهرُ الصوم، وأقبلتْأيَّامُه، وفيه مِن الفوائد العظيمة، والحِكم البالغة ما اشتهر ذِكْرُه،ولم يَخْفَ أمرُه، وقد جرت عادةُ الناس
أنَّهم يتوبون إلى الله من بعضذنوبهم كلَّما جاء رمضان، ثم يعودون لِمَا نُهوا عنه بعدَ رحيله؛ إلاَّقليلاً منهم.
وقد
أخبرَنا الله في كتابه أنَّه فَرَضعلينا الصيام، كما فَرَضَه على الذين مِن قبلنا، لنُحقِّق به ومِن
خلالهالتقوى،
فهل نحن نفعل ذلك؟
إنَّ الصومَ ليس جوعًا وعطشًا، ولكنَّه خشوع لله وخضوع.
إنَّه
- كما يقول ابن القيم رحمه الله -: لجامُ
المتقين، وجُنَّة المحاربين، ورياضةُ الأبرار والمقرَّبين، وهولربِّ العالمين من بين سائرِ الأعمال،
فإنَّ الصائم لا يفعل شيئًا، وإنَّمايترُك شهوتَه وطعامه من أجل معبودِه، فهو ترْك محبوبات
النفس؛ إيثارًالمحبَّة الله ومرضاته، وهو سرٌّ بين العبد وربِّه، لا يَطَّلِع عليه
أحدٌسواه،
والسِّرُّ الذي يتحدَّث عنه العلماء يكمُن في هذا السؤال: هل تَرَكالصائمُ طعامَه وشرابه وشهوته من أجل
الله؟ أم لشيء آخر؟ لقد جاءنا رمضانُهذا العام، فوجدْنا - أمة الإسلام - كالحيارَى في
الصحارِي، وأصبحْنا بحاجةإلى وقفة مع أنفسنا، بل وقفات، نستلهم الدروسَ والعِبر من هذا الشَّهْرالعظيم الذي خصَّنا الله به، وفضَّلَنا
على كثير ممَّن خلق تفضيلاً.
فمن هذه الدروس واللطائف:
أنَّ
التقرُّب إلى الله بترْك الحلال (الطعام والشراب)،لا يكون مقبولاً إلاَّ إذا سبَقَه
تقرُّبٌ إلى الله بترْك المحرَّمات، وقدبيَّن هذا رسولُنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - في حديث
البخاري: ((مَن لَميَدَعْ قولَ الزُّور والعملَ به، فليس لله حاجةٌ في أن يَدعَ طعامَهوشرابه))، ونَزيد الأمرَ وضوحًا، فنقول: إنَّ
الصوم لا يكون نافعًا، ولامحقِّقًا لحكمة فرضيته إلاَّ إذا صامتِ الجوارح قبلَ أن يصوم البطن.
وإنَّك
لتعجبُ من قوم يُجوِّعون أنفسَهم في نهار رمضان، وألسنتُهم وأعينهم وأيديهم
وأرجلُهم تعملُ في معصية الله،فأين الصيام؟!
ومِن هذه الفوائد والعِبر:
أنَّ
المؤمنَ يجتمع له في شهر رمضان نوعانِ من الجهاد: جهادٌ لنفسه بالنهار على الصيام،
وجهادٌ لها باللَّيْل على القيام.
وفريق
من المسلمين يصوم نهارَه، فإذادَخَل اللَّيْلُ أقبل على المعاصي، وسارع إلى الذنوب، فبعضُهم يجلس
أمامَالتلفاز
يشاهد أنواعًا من المنكرات، وهو يظنُّ أنَّ الصوم عن المعاصيمختصٌّ بنهار رمضان دون ليله!
وبعضهم
يفعل غيرَ ذلك من السيئاتوالمنكرات، وهؤلاء جميعًا لم يفهموا حقيقةَ الصوم، ولم يُدركوا
الحِكمةَالبالغة التي من أجلِها كانت فريضة الصوم.
ومنها:أنَّ الله قد خصَّ شهر رمضان بأن جعلَه شهر
النصر في بدر، وفى الفتح، وعندما نتدبَّر قوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ
وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل
عمران: 123] نرى أنَّنا اليوم قد صِرْنا أذلَّة، ونحن بحاجة إلى نصْرالله كحاجةِ المؤمنين إليه في يوم بدر،
فالواجب على الأمَّة أن تأخذَبأسباب النَّصْر، وعلى رأسها: الدُّعاء والإنابة، والرُّجوع، والخشوع،والخضوع، وفتح الله مكَّة المكرَّمة
للمسلمين في رمضان، وهنا يأتي الدرس:
•
ففي رمضان نَزَل القرآن، فلمَّا تمسَّك به المسلمون
واعتصموا، نصرَهم الله في بدر، وفى الفتح، وهذا مِن سُنن الله في عباده المؤمنين.
•ورمضانُ شهرُ الجود والكرم، والصدقة
والعطاء، وليس الجود - فقط - أن تكونَغنيًّا فتتصدَّق، ولكن الجود أن تكون فقيرًا، فتقسم ما في
يدك مع محتاجمثلِك، ولذلك كانت صدقةُ الفطر مظهرًا من مظاهر الأُخوَّة الصادقة، وهي
فينفس
الوقت طُهرة للصائمين، وطُعمة للمساكين. •ولو أنَّ كلَّ مسلِم أهدَى إلى جيرانه طعامًا، أو شرابًا
في رمضان لتحوَّل المجتمع المسلِم إلى جسد واحد، وليس الخبر كالمعاينة.
وفي رمضان من الدروس النافعة:
أنَّ
الله قد أكرمَنا فيه بليلة القدر،التي هي خيرٌ من ألْف شهر، ومن الأحاديث العجيبة التي جاءتْ في ذكْرها:
مارواه
البخاري في صحيحه بسنده إلى عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: خَرَج النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -
ليُخبرَنا بليلةِ القدر، فتلاحَىرجلانِ من المسلمين - أي تخاصَمَ وتنازَعَ - فقال: ((خرجتُ لأخبرَكم
بليلةالقدر،
فتلاحَى فلان وفلان فرُفِعت، وعسى أن يكونَ خيرًا لكم، فالْتمسوهافي التاسعة، والسابعة، والخامسة)).
وتدبَّرْ أيها القارئ الكريم،كيف كان الخِصامُ والتنازع سببًا في
رَفْع الخير، أو منعه وخفائه.
ومن لطائف هذا الشَّهْر الكريم:
•
أنَّ باب التوبة فيه مفتوحٌ على مصراعيه، ولا يَستغني
العبدُ عن المغفرة لذنبٍ فَعلَه، أو لإثم ارتكبه. •ولا يَغفر الذنوب إلاَّ اللهُ، وقد ذَكَر القرآن من أخصِّ
صفات المتقين: أنَّهم
يستغفرون من ذنوبهم، ولا يُصرُّون على فِعْلهم فقال: {وَالَّذِينَإِذَا فَعَلُوا
فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَفَاسْتَغْفَرُوا
لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُوَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ
يَعْلَمُونَ} [آل
عمران: 135]. •فمَن تدبَّرَ هذا، عَلِمَ أنَّ الصوم يُثمر التقوى؛ {لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ} [البقرة:
183]، والتقوى تُثمر الاستغفار، وعدمَ الإصرار؛ {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ...} [آل عمران: 133].
وبابُ التوبة مفتوح،والدُّعاء مُجَاب، فمَن انتفع بهذا، خرج من رمضان بغير
ذنوب كيومَ ولدتْهأمُّه، ومن لم ينتفعْ به فخرج من رمضان بغير مغفرة، فلا يلومنَّ إلاَّنفسَه.
وأخيرًا:
فإنَّ
شهر رمضان هو شهرُ الفرح الحقيقي،فإنَّ الناس قد يفرحون بالأموال، والأبناء أو بالمنصب، والجاهوالسُّلْطان، وقد يُوقِعهم ذلك في الفرح
المذموم؛ {لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76]، أمَّا الفرح الحقيقي، فهو: الفَرَح بالطاعة، وبفَضْل الله، وهذا
الذي أرشدَ إليه القرآن في قوله – تعالى -: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ
فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 85].
وقد بيَّن الرسول- صلَّى
الله عليه وسلَّم - في الحديث الصحيح، الذي رواه البخاري ومسلم، ذلكالفرح الحقيقي الذي يُدركه الصائم، فقال:
((للصائمِ فرحتانِ: فرحةٌ عندفِطره، وفرحةٌ عندَ لقاء ربِّه))، فإذا تدبَّرتَ الآية مع الحديث،
فإنَّكتقف
على وصْفٍ دقيق للسعادة الحقيقية، التي يبحث عنها كلُّ الناس، ولايُدركها إلاَّ المؤمن، إنَّها: فرحٌ بفضل
الله، فرح بإتمام نِعمة الصَّوْموالقيام بما أوجب الله: ((فرحة عندَ فطره))، وفرح عند لقاء ربه، وهو
أعظمُالفرح
وأجملُه وأحسنُه.
اللهمَّتقبَّل صيامَنا، وركوعنا، وسجودنا وسائرَ أعمالنا الصالحات، وصلَّى
الله وسلَّم، وبارك على نبيِّنا محمد، وآله وصحبه.